لقد كان نظام الإرث عند العرب أقرب ما يكون لنظام الإرث المذكور في التوراة فلا نصيب للنساء في التركة مع وجود الورثة من الرجال وغالبا ما يستحوذ الكبار من الأبناء على نصيب الصغار منهم.
ولهذا فقد كانت مهمة تغيير نظام الإرث هذا من أصعب المهام التي واجهها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وخاصة أن اليهود الموجودين في المدينة يعملون بنظام توريث مستمد من التوراة وهو مشابه للنظام الذي تتبعه العرب في جاهليتهم.
لقد كان من السهل جدا أن تعترض العرب على نظام الإرث الجديد بحجة أن نظامهم لا يختلف عن النظام المذكور في التوراة والذي يعمل به يهود المدينة وقد سبق للقرآن أن مدح التوراة وما فيها من شرائع وذلك في قوله تعالى "إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ" المائدة 44.
وقد حدث هذا بالفعل فقد روى العوفي عن ابن عباس عند تفسيره لقوله تعالى "يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين" أنه قال لما نزلت الفرائض التي فرض الله فيها ما فرض للولد الذكر والأنثى والأبوين كرهها الناس - أو بعضهم - وقالوا: تعطى المرأة الربع أو الثمن وتعطى الابنة النصف ويعطى الغلام الصغير وليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم ولا يجوز الغنيمة ! اسكتوا عن هذا الحديث لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينساه أو نقول له فيغير ! فقالوا :يا رسول الله تعطى الجارية نصف ما ترك أبوها وليست تركب الفرس ولا تقاتل القوم ويعطى الصبي الإرث وليس يغني شيئا - وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية ولا يعطون الإرث إلا لمن قاتل القوم ويعطونه الأكبر فالأكبر] رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.
لقد جاء القرآن الكريم بنظام إرث جديد أنصف فيه جميع الورثة وخاصة النساء منهم والتي كن محرومات من تركة أقربائهن في نظام الإرث المطبق عند العرب وكذلك عند أهل الكتاب من اليهود والنصارى.
لقد بدأ القرآن الكريم بإقرار مبدأ عظيم وهو أن للنساء نصيب من تركة أقربائهن كما للرجال مهما بلغت قيمة التركة وأن هذا الحق مفروضا لهن من الله سبحانه وتعالى وذلك في قوله تعالى
"لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً" النساء 7.
ولم يكتف القرآن الكريم بإنصاف النساء بل تعدى ذلك وطلب من الورثة إعطاء جزءا ولو كان بسيطا من التركة للأقارب الذين لا نصيب لهم في التركة في النظام الجديد وخاصة من كان لهم فيها من قبل نصيب تطييبا لأنفسهم وكذلك التصدق على من حضر من اليتامى والمساكين وذلك في قوله تعالى
"وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفا ("ًالنساء 8. )
وقد أكد القرآن الكريم كذلك على عدم هضم حقوق صغار الورثة من الذكور والإناث عند القسمة من قبل كبار الورثة وكذلك الحفاظ على أموال هؤلاء اليتامى من قبل إخوانهم أو أعمامهم أو من هم في كفالتهم وخاصة في غياب رقابة الدولة على إجراءات قسمة التركة وذلك في قوله تعالى
"وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً" ( النساء 9-10.)
وبعد أن وضع القرآن القواعد العامة لنظام الإرث بدأ بتحديد أنصبة كل من ورثة المتوفى سواء كان ذكرا أم أنثى وذلك في ثلاث آيات فقط لا يتجاوز عدد أسطرها العشرة وهي مليئة بالفرائض باستخدام نظام الكسور.
وفي سبب نزول آيات الإرث هذه فقد روى أبو داود والترمذي وابن ماجه عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر قال:[ جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك في يوم أحد شهيدا وأن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا ولا ينكحان إلا ولهما مال . قال: فقال: "يقضي الله في ذلك " فنزلت آية الإرث . فأرسل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلى عمهما فقال: "اعط ابنتي سعد الثلثين وأمهما الثمن وما بقي فهو لك ".
فالآية الأولى تحدد أنصبة أصول وفروع المتوفى وهم الأب والأم والأولاد ذكورا وإناثا وهذه الحالة هي الأكثر شيوعا وتعالج معظم حالات التركات فقال عز من قائل
"يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيماً" ( النساء 11.)
إن الفرض الرئيسي في هذه الآية أن المتوفى إذا ترك أولادا ذكورا وإناثا فإنهم يتقاسمون التركة بينهم بحيث يكون حصة الذكر ضعف حصة الأنثى وذلك بعد إعطاء بقية الورثة أنصبتهم أما إذا ترك إناثا فقط فإنهن يتقاسمن ثلثي التركة إن كن اثنتين أو أكثر أما إن كانت واحدة فلها نصف التركة.
أما الفرض الثاني فهو ما يتعلق بنصيب الأب والأم حيث يأخذ كل منهما السدس في حالة وجود أولاد ذكور أو في حالة وجود ابنتين أو أكثر أما في حالة وجود بنت واحدة فإن أم المتوفى تأخذ السدس ويأخذ أبوه الثلث. أما في حالة عدم وجود ذرية للمتوفى فإن الأم تأخذ الثلث والأب يأخذ الثلثان في حالة عدم وجود أخوة للمتوفى أما إذا كان له أخوة فإن الأم تأخذ السدس والأب يأخذ بقية التركة.
أما الآية الثانية فهي التي تحدد نصيب الأزواج من بعضهم البعض ونصيب الأخوة والأخوات من الأم وذلك في قوله تعالى
"وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ" (النساء 12.)
وتحدد هذه الآية أن نصيب الرجل من زوجته المتوفية هو النصف إذا لم يكن لها ذرية والربع إذا كان لها ذرية سواء كانت هذه الذرية منه أو من غيره.
أما نصيب المرآة من زوجها المتوفى فهو الربع إذا لم يكن له ذرية والثمن إذا كان له ذرية سواء كانت هذه الذرية منها أو من غيرها وفي حالة وجود أكثر من زوجة فإنهن يشتركن في هذا النصيب إما الربع وإما الثمن.
أما النصف الثاني من الآية السابقة وكذلك الآية الأخيرة من سورة النساء فإنهما تحددان الطريقة التي يتم بها توزيع تركة الكلالة وهو المتوفى ذكرا كان أم أنثى الذي غاب أصله وفروعه أي لا ولد له ولا والد يرثونه ولكن قد يكون له أخوة.
فإذا كان للكلالة أخوة من أم فإن الآية السابقة تحدد نصيب كل منهم فإذا كان للكلالة أخ واحد فله السدس أو أخت واحدة فلها السدس كذلك وإذا كانوا أكثر من واحد ذكورا كانوا أم إناثا فإنهم يشتركون في الثلث يتقاسمونه بينهم بالتساوي للذكر مثل حظ الأنثي.
لقد حدد الله سبحانه وتعالى نصيب أخوة الكلالة من أمه لعلمه أن البشر لن يستطيعوا تحديد ذلك ولكنه سبحانه ترك لهم مهمة تحديد أنصبة أخوة الكلالة من الأب بالقياس على الآية الأولى وكان بإمكانهم فعل ذلك ولكن سؤالهم المتكرر لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك استلزم أن ينزل الله فيه قرآنا وهي قوله سبحانه وتعالى
"يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" ( النساء 176.)
فكما هو واضح من هذه الآية فإن أخوة وأخوات الكلالة من الأب أو الأب والأم يعاملون معاملة أبناء وبنات المتوفى فإذا كان للكلالة إخوة وأخوات فإنهم يتقاسمون التركة بينهم بحيث يكون حصة الذكر منها ضعف حصة الأنثى وذلك بعد إعطاء بقية الورثة أنصبتهم أما إذا كن إناثا فقط فإنهن يتقاسمن ثلثي التركة إن كن اثنتين أو أكثر أما إن كانت واحدة فلها نصف التركة.
إن هذه الآيات الثلاث وضعت القواعد الأساسية لنظام الإرث في الإسلام وهي تعالج ما يزيد عن تسعين بالمائة أو ربما أكثر من حالات التركات وقد أنشأ علماء المسلمين بابا من العلم يسمى علم الفرائض يعالج جميع حالات الإرث كنصيب الجد والجدة والأعمام والعمات وأبناء الأخوة وأبناء الأعمام وذلك بناء على الأصول الواردة في هذه الآيات وما ورد في السنة النبوية وما اجتهد به أصحاب وأتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم.